الرئيس عباس يحول وقف آل تميم في الخليل إلى لغم متحفز للانفجار
د. محمود أبو فروة الرجبي
ما فعله الرئيس الفلسطيني محمود عباس من تحويل أرض وقف تميم الداري في جبل سبتة في مدينة الخليل الفلسطينية والذي يطلق عليه “المسكوبية” إلى أملاك عامة، ثم وهبها للبعثة الكنسية الروسية مخالف للشرع، والقانون، والقيم الإنسانية، وهو يشبه القفز في الهواء من مرتفع عالٍ، ثم الهبوط في واد سحيق، ولا أحد يعرف ما هي مبررات هذه الفعلة، ولماذا قام بها، بل وما هو الضغط الذي يمكن أن يتعرض له رئيس واقع تحت احتلال دولة أخرى، ليتنازل عما لا يملك في عملية لم تستطع سلطات الاحتلال التي يقبع تحت فوهات دباباتها أن تجبر أحدًا عليها منذ أول يوم للاحتلال الكريه.
قضية الرئيس الفلسطيني ليست مع عائلة التميمي وهي عائلة عريقة تعد من أكبر، وأقدم عائلات الخليل، ولا مع أهل الخليل، وهم فئة متميزة في فلسطين والخارج، تتصف بالنشاط الاقتصادي، والإبداعي، والإنتاجي، والتماسك، وليس مع أهل فلسطين كلهم وهم أهل النضال، والجهاد، وقد علموا العالم كله وسائل جديدة في الدفاع عن أرضهم في ظل حصار من إسرائيل وغيرها من الدول العربية، ومع ذلك تمكنوا من الحفاظ على هويتهم، وأرضهم، ومقارعة أعتى قوى استعمارية إرهابية في العالم “إسرائيل”، بل مشكلته مع العالم كله، لأنها قضية أخلاقية تتعلق بمن يهب ويعطي ما لا يملك لمن لا يستحق.
وقبل أن نعرف الجذور التاريخية لهذه القضية لا بد من الإشارة إلى أنه لا يسكن الخليل أي شخص فلسطيني أو عربي غير مسلم، باستثناء أشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة وهم من إتباع الكنيسة الروسية، ولا نقول هذا الكلام طائفيًا، فالمسيحيون العرب هم شركاء للمسلمين في كل شيء، وهم أهل نضال وكفاح مشهود لهم على مر التاريخ، وحتى ما حصل مع الكنيسة الأرثوذكسية التي يقوم عليها أجانب – غير عرب- في فلسطين من تسريب ما يقرب من 40% من الوقف الأرثوذكسي للكيان الصهيوني كان مستهجنًا من قبل المسيحيين العرب الذين حاولوا وقف هذه التنازلات المهينة .
بنيت المسكوبية أو كنيسة دير الإرسالية الروسية في العام 1906م وأخذت تسمية دير المسكوبية نسبة إلى العاصمة الروسية موسكو، حيث إن المسكوب هم المسيحيون الروس الذين جاءوا إلى فلسطين عام 1868م. وهذا الدير هو من أهم المعالم الأثرية التي تستأجرها روسيا إيجارًا بدأ في زمن الدولة العثمانية وانتهت مدته منذ سنوات.
ولم تقم الكنيسة بتجديد الإيجار، ومع ذلك فإن آل التميمي لم يظهروا الرفض لتجديده رغم أن الكنيسة لم تلتزم ببنوده منذ دخول الاحتلال الصهيوني إلى المدينة في العام 1967م.
وخلال تاريخ الوقف كله، ورغم تعرضه للكثير من المؤامرات إلا أنه بقي على حاله ملكًا لآل تميم الداري، ولم يتعرض لمثل هذا الخطر الداخلي سوى في هذه الفترة، وإذا عرفنا أن الاحتلال متحفز للسيطرة على هذا الوقف، وفي حالة تسربه إليه فإنه سيصيب مدينة الخليل في مقتل، وسيكون بمثابة اللغم الذي ينفجر في أي لحظة بوجه أهلنا الصامدين في الخليل، وسيجعل من حياة أهل المدينة لا يطاق إذ أن سلطات الاحتلال ستعمد إلى وضع حواجز محيطة بالوقف كاملًا، وستمنع الحركة في محيطة ولمسافة كيلو مترات، وإذا عرفنا أن الوقف أصبح الآن في وسط مدينة الخليل نتيجة التوسع بالبناء فهذا يعني أنه أسلوب جديد لحصار أهل المدينة وخنقهم، إضافة إلى ذلك فإن هذا العمل الذي قام به سيادة الرئيس مرفوض من زوايا عديدة:
الزاوية الأولى: شرعيًا.
إذ أن هذه الأرض هي وقف إسلامي ولا يجوز شرعًا بيعه، أو وهبه، فقد روى البخاري (2764) ، ومسلم (1632) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يتصدق بنخل له، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يوقفه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( تصدق بأصله ، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره )، والأخطر ممن ذلك أن هذا الوقف هو أول وقف في الإسلام، وله قصة في التاريخ الإسلامي حينما وهبه الرسول لتميم الداري وأخوته، وذريته من بعده، بما عرف “الإنطاء” وهي كلمة الإعطاء بلهجة أهل اليمن القديمة، وبذلك فإن مثل هذه القرار يعني التصادم بكل ما في الكلمة من معنى مع العقيدة الإسلامية، وهذا يقلل من شرعية أي رئيس يقوم به، ويجعله يتصادم مع الناس في كل مكان، واعتقد أن مستشاري الرئيس قادرون على إيصال هذه المعلومة له.
الزاوية الثانية: وطنية
مسألة الأرض والتنازل عنها في فلسطين والوطن العربي حساسة جدًا، خاصة بالنسبة للأجانب، فإذا كان التنازل عن شبر من الأرض يدخل ما فعل ذلك في دائرة الشك، والريبة، والتخوين، فكيف بمن يتنازل عن أرض وقفية عرفنا ما هي قصتها، ومكانتها في الوجدان العربي والإسلامي، لست من هواة التخوين، ولكن هذه المسألة شديدة الحساسية، والناس في بلادنا يسارعون في وصف كل من يقوم بهذا العمل بأقذع الأوصاف، فهل يتحمل سيادة الرئيس ما يقال، وسيقال عنه، خاصة عندما تتسرب الأرض إلى الصهاينة.
الزاوية الثالثة منطقية.
ما فائدة التنازل عن أرض لكنيسة ليس لها أي أتباع، وما هو المبرر الموضوعي لذلك، فإذا كان هناك طلب روسي بهذا الخصوص، فماذا تريد روسيا من الأرض إذا كانت تستطيع استئجارها مثلما حصل في زمن الدولة العثمانية، ثم إن مساحة الوقف تزيد عن سبعين دونما، بينما لا تغطي المباني أكثر من دونمين إلى خمسة حسب الروايات المختلفة، فهل من الحكمة والمنطق إعطاء هذه المساحة كلها لهم، علمًا أننا ضد إعطاء ولو شبر واحد منها، ولكن نحن نتحدث بالمنطق، والعقل.
أمر آخر له علاقة بالمنطقية فإذا كان للكنيسة الأرثوذكسية سوابق في تسريب الأملاك الوقفية المسيحية – وهي أوقاف غالية علينا كلنا – فكيف نجرب المجرب، وندخل أنفسنا في دائرة الخطر، خاصة أننا نعيش في مرحلة يتجهز فيها الكيان الإرهابي لابتلاع المزيد من الأرض، وبناء كثير من المغتصبات الجديدة.
الزاوية الرابعة قانونية.
لا يجوز دستوريًا التنازل عن أي شبر من أرض الوطن، ولا يسمح القانون استملاك أي أرض إلا لمنفعة أهل البلد، وليس لإعطائها للأجانب، والأمر الأخطر من ذلك أن هناك قرارًا صدر من محكمة العدل العليا يتضمن وقف كافة الإجراءات المتعلقة بقرار حكومة السلطة استملاك هذه الأرض بناء على قضية تقدم بها آل تميم اعتراضًا على قرار الاستملاك، ورغم صدور قرارات قضائية في هذا الموضوع إلا أن الرئيس ضرب بها عرض العرض، وقد أعجبني ما قاله الدكتور هاني الحلواني أحد وجهاء عائلة التميمي في الأردن في ندوة أقيمت دعمًا لجهود آل التميمي في العاصمة عمان بهدف دعم جهود في وقف التنازل عن هذا الوقف أن ترامب رئيس أعظم دولة في العالم لم يخرق قرار قاض في محكمة أمريكية حينما منع دخول مواطني سبع دول حاصلين على تأشيرات إلى الأرض الأمريكية فتوقفت السلطات عن ذلك بمجرد صدور قرار القاضي، بينما يحصل عكس ذلك في فلسطين.
المعركة ما زالت في بدايتها، وأهل الخليل والعالم العربي والإسلامي متعاطفون مع آل التميمي أصحاب الوقف،
هذا كله يدل على خطورة الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكلنا أمل أن ينصحه المحيطون به بالتراجع عن هذا القرار المدمر، الذي سيسجل له تاريخيًا أنه الرئيس الوحيد الذي تنازل عن أملاك وقفية منذ البعثة المحمدية، والتمني أيضًا أن تشكل حركة فتح التي تمتلك تاريخاً نضاليًا طويلًا والتي ينتمي إليها الرئيس لوبي ضغط عليه ليتراجع عن هذا القرار الكارثي، حتى لا تخسر الحركة ما بقي لها من رصيد في قلوب الشعب الفلسطيني، نعرف أن هذا الأمر قد لا يحصل ولكن الأمل الحقيقي في الشعب الفلسطيني الذي يثبت كل يوم أنه أهل ليكون بحق الشعب الذي يضرب الأرقام القياسية دائمًا بالكرامة، والعزة، والفخار.
ومن المهم وخروجًا من خطر الضغوطات التي قد تمارس على متولي الوقف، أن تكون هناك لجنة كاملة مكونة من عدة أشخاص ثقات من آل التميمي لتتولى الوقف، وبذلك لا يمكن إجبار متولي الوقف عن التنازل عن واجباته اتجاه هذا الوقف.
وقف تميم الداري لم يمس تقريبًا منذ “الإنطاء النبوي”، وسيكون من سوء حظ أي رئيس أو مسؤول أن يكون هذا التنازل في زمنه، والله، ثم التاريخ، والشعوب لا ترحم، فلماذا يا سيادة الرئيس تصنع لغمًا خطراً وتضعه تحت أقدام أهل الخليل الصامدين؟
[email protected]
إعلامي وأكاديمي أردني
تعليقات الفيس بوك