لماذا لا تقدم السلطة الفلسطينية البطريرك تيوفيلوس للمحاكمة؟

لماذا لا تتم مساءلته والتحقيق معه وحتى اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية بتهمة السمسرة وبيع أراضي الوطن، فمحمود عباس يريد استحضار شخصيات موجودة في الخارج وتقديمها للقضاء بتهمة الخيانة والتفريط، وهل بيع مئات وآلاف الدونمات لسلطة الاحتلال ليست خيانة وتفريطا؟ ولماذا يتم السكوت عليها؟
لماذا لا تقدم السلطة الفلسطينية البطريرك تيوفيلوس للمحاكمة؟

 


تكتسب أزمة الكنيسة الأرثوذكسية التي عادت إلى العناوين في السنوات الأخيرة بعدا وطنيا في ضوء صفقات بيع الأراضي وفضائح تسريب أملاك الوقف إلى رجال أعمال وجمعيات صهيونية، في إطار تعميق السيطرة اليهودية في قلب القدس، وخلق وقائع على الأرض تسمح لإسرائيل بتمرير مخططاتها السياسية في المدينة.

وتتداخل قضية صفقات البيع وتسريب الأوقاف التي تمت بتواطؤ البطريرك الحالي والسابق والإكليروس اليوناني على هذا التسريب مع الكفاح من أجل تحرير الكنيسة من الهيمنة اليونانية المتواصلة منذ خمسة قرون متجاوزة بعدها الديني لتصبح قضية وطنية عامة تمس جميع أبناء الشعب الفلسطيني.

وكانت الكنيسة الأرثوذكسية قد ابتدأت في الأردن وفلسطين على يد الأسقف يعقوب الرسول ابن يوسف النجار الذي استشهد في العام 62م على يد اليهود، وخلفه شقيقه سمعان الذي اسُتٌشهد أيضاً على يد اليهود، وتعاقب على رئاسة أسقفية القدس والأراضي المقدسة (التي تحولت لاحقاً إلى بطريركية) العشرات من الأساقفة والبطاركة كانت غالبيتهم الساحقة من العرب أهل البلاد، أبرزهم البطريرك إيليا النجدي الذي ترأس الكرسي البطريركي عام 494م والبطريرك صفرونيوس الدمشقي الذي ترأس الكرسي البطريركي عام 634م والذي استقبل الخليفة عمر بن الخطاب، والبطريرك يوحنا الذي ترأس الكرسي البطريركي عام 705م والذي منع الصلاة في الكنائس بأي لغة غير العربية.

وعندما احتل الفرنجة بيت المقدس عام 1099م في إطار الحملات الصليبية قتلوا العرب الأرثوذكس، كما قتلوا العرب المسلمين ونًصّبوا البطاركة اللاتين على القدس، واحتلوا دار البطريركية الأرثوذكسية في المدينة المقدسة وطردوا البطاركة الأرثوذكس إلى القسطنطينية، واستولوا على كنيسة القيامة والعديد من الكنائس والأديرة العربية الأرثوذكسية.

كما أن صلاح الدين الذي فتح مدينة القدس عام 1187م بعد أن حكمها الفرنجة مدة 88 عاما لقي معاونة وتأييدا كبيرا من الأرثوذكس العرب الذين حاربوا في جيش صلاح الدين الأيوبي، ومنهم القائد الكبير عيسى العوّام.

ومن الثابت أنّ الرئاسة الروحية للكنيسة الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين ظلت عربية حتى القرن السادس عشر، حيث انتهى عهد البطاركة العرب في البطريركية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين باستقالة البطريرك العربي عطالله عام 1534م إبان الفتح العثماني حيث خلفه البطريرك الجديد جرمانوس اليوناني.

وكان العثمانيون الذين فتحوا القسطنطينية سنة 1435، قد تركوا للمسيحيين حرية العبادة، وسمح السلطان بانتخاب بطريرك جديد، سمي “ملة باشي” رئيسا للمسيحيين جميعا، وقد تجاوز نفوذه حدود بطريركيته وسلطاته الدينية إلى نفوذ سياسي كبير، بعد أن منحه السلطان المزيد من الامتيازات وتمكن من بسط نفوذه على عموم الكنيسة الأرثوذكسية.

الدعم الذي منحه العثمانيون لأسقف القسطنطينية، الشخصية الإدارية الرسمية “لملة الروم”، قد عمق من سيطرة اليونانيين على هيئة الكهنوت، فشغل الأساقفة اليونان مراتبها المتسلسلة كافة، وأصبحت البطريركيات القديمة في الشرق الأوسط تخضع لسلطة الفنار (حي في إسطنبول أقيمت فيه البطريركية الأرثوذكسية). كذلك انتهت الكنيستان البلغارية والصربية ا إلى المصير نفسه.

وقد ظهر نفوذ حي الفنار في إسطنبول مركز بطريركية القسطنطينية التي شكلت المركز العالمي للأرثوذكسية الشرقية، بسبب الثروة الهائلة التي امتلكتها العائلات اليونانية التي تسكنه، ودورها في الصراع المحتدم مع القيصرية الروسية، والحرب بينها وبين العثمانيين التي حصلت على تغطية عقائدية من الكنيسة، فأغدق العثمانيون بالامتيازات والمناصب على اليونانيين لشراء ولائهم وفصلهم عن روسيا.

كانت القدس، في حينها، تمثل مركزا لرمزية الهيمنة بين القوى العظمى المتغطية بأردية الدين، ولذلك من غير المستغرب أن تلعب الكنيسة الأرثوذكسية لعبت دورا أساسيا في الحرب الروسية –العثمانية التي انتهت عام 1774، بمعاهدة كيتشوك كينارجي، والتي منحت الروس السيطرة على شبه جزيرة القرم، وجعلتهم للمرة الأولى شركاء في البحر الأسود، وأسست لدورهم الكنسي في المشرق والقدس على وجه الخصوص.

استمر تعاقب البطاركة والمطارنة اليونان حتى نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدا عند الأزمة التي طالت الكنيسة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، نتيجة الصراع المذكور بين روسيا واليونان، خصوصا الأخوية اليونانية التي استبد بها الجزع بعد استقلال البطريركية البلغارية والصربية، وقررت القتال حتى النهاية لإبقاء الاستحواذ على أنطاكية والقدس. اشتد الصراع حين عزل المجمع المقدس البطريرك كيرلس بحجة علاقته بروسيا الأرثوذكسية وتأييده لها واستبدل بالبطريرك بروكوبيوس الثاني عام 1873م.

وتأسست لاحقا ردا على عملية العزل “الجمعية الأرثوذكسية الوطنية” التي أرسلت الجمعية وفدا إلى الأستانة احتجاجاً على سلوك الأخوية وعزل البطريرك، بينما زعم اليونانيون أن الروس أججوا النزعة القومية عند العرب، وشدوا أزرهم في معاداة الأخوية. الجمعية شكلت المحطة الأولى في صراع الرعية الأرثوذكسية الفلسطينية العربية ضد الهيمنة اليونانية، وكفاحها المتواصل حتى يومنا هذا ضدالهيمنة الأجنبية وضد عملية النهب التاريخي الذي تتعرض له الكنيسة الأرثوذكسية الفلسطينية، وهي وأموال الفلسطينيين وخيراتهم التي تذهب إلى جيوب هؤلاء السماسرة وأرضهم التي تذهب إلى المستوطنين الصهاينة.

حول هذا الموضوع والقضية الأرثوذكسية في مثلث العلاقات الروسي اليوناني العثماني وواقع اليوم في ظل الاحتلال الإسرائيلي حاورنا د. نقولا بجالي الذي أعد رسالة الدكتوراة في تاريخ العلاقات الروسية مع العرب المسيحيين الأرثوذكس في بلاد الشام، ومحاضر في الجامعة المفتوحة الإسرائيلية.

عرب48: كيف خرجت الكنيسة العربية الأرثوذكسية في القدس وغيرها من العواصم العربية من أيدي العرب، وخضعت للاحتكار الأجنبي والهيمنة اليونانية؟

بجالي: المفارقة أن الكنيسة الأرثوذكسية خرجت من أيدي العرب عندما خرجت الخلافة الإسلامية من أيدي العرب، فكان الخليفة عمر بن الخطاب عام 634 هو الذي ثبت أن يكون بطريرك القدس عربيا، بينما قام المنصور في القرن السابع عشر بتعريب الصلوات في حين كان العثمانيون في 1534هم من مكنوا اليونانيين من البطريركية الأرثوذكسية عندما قاموا بعزل البطريرك العربي عطا الله الثاني، وتعيين البطريرك جرمانوس بطريرك القسطنطينية كأول بطريرك يوناني في بطريركية القدس.

عرب 48: حقا هي مفارقة، ولكن لماذا يختار الباب العالي اليونانيين ولا يختار العرب؟

بجالي: في العشرين سنة الأولى من الحكم العثماني فقط كان البطريرك عربيا وفي العام 1534 ميلادية، استدعى السلطان العثماني بطريرك كنيسة القدس الأرثوذكسية، وكان بطريركيًا عربيًا، وهو البطريرك عطا الله الثاني إلى القسطنطينية، وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها، ولم يسمح له بالخروج منها والعودة إلى القدس، لينهي عهد البطاركة العرب حيث أانتخب البطريرك الجديد، جرمانيوس اليوناني، الذي كان يجيد اللغة العربية التي درسها في مصر.

أما لماذا اختيار اليونان فلأن الفنار، وهو الحي اليوناني الأكثر غنى في القسطنطينية، كان يتمتع بنفوذ كبير في قصر السلطان وربطته به علاقة متشابكة من المصالح المشتركة، حيث كان الكهنة اليونانيون مستعدون لتنفيذ كل طلبات الباب العالي ورعاية مصالحه، ولذلك جرت توليتهم على جميع الكنائس الأرثوذكسية التي كانت واقعة تحت سيطرة السلطنة العثمانية، ولم تنج إلا بطريركية روسيا التي لم تقع تحت هذه السيطرة.

عرب 48: هذا الوضع يستمر منذ 500 عام ليس في القدس فقط بل في دول عربية تتمتع بالاستقلال السياسي مثل مصر وسوريا، لماذا؟

بجالي: من الجدير توجيه هذا السؤال لقادة هذه الدول فهي دول مستقلة وكان بإمكانها وما زال بإمكانها أن تحذو حذو عمر بن الخطاب الذي اشترط أن يكون البطريرك من القومية التي تحكم البلاد، عربيا، وأنا لا أفهم لماذا يجب أن يكون بطريرك مصر يونانيا وليس مصريا.

أما بخصوص فلسطين والأردن الواقعتين تحت نفوذ بطريركية القدس فبإمكانهما الاعتراض على تعيين البطريرك اليوناني، خاصة وأنه متورط في صفقات بيع أراض فلسطينية لجمعيات استيطانية صهيونية.

أنا لا أفهم لماذا لا تتم مساءلته والتحقيق معه وحتى اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية بتهمة السمسرة وبيع أراضي الوطن، فمحمود عباس يريد استحضار شخصيات موجودة في الخارج وتقديمها للقضاء بتهمة الخيانة والتفريط، وهل بيع مئات وآلاف الدونمات لسلطة الاحتلال ليست خيانة وتفريطا؟ ولماذا يتم السكوت عليها؟

عرب48: وهل هو يستطيع فعل ذلك ولا يفعل؟

بجالي: ولم لا، إذا كان يمتلك السلطة لمحاكمة أي مواطن وقد فعل، فهو يستطيع محاكمة البطريرك تيوفولوس كان أم إيرينيوس أم غيره، خاصة وأن الحديث يجري عن تهم تتعلق بخيانة الأمانة وتسريب أراضي الوطن للاحتلال، أو بأقل تقدير تحويل هذه الاتهامات إلى تهم جنائية بشكل فعلي، لا توفير الحماية للبطريرك من الجماهير الغاضبة.

السلطة الفلسطينية والأردن توافقان بالعادة على تعيين البطريرك اليوناني بدون تحفظ، بينما توافق عليه إسرائيل بشروط، وعلى ما يبدو فهو ينفذ شروط إسرائيل.

عرب 48: أتريد القول إن القضية التي تأخذ كل هذا الحيز وتشغل العرب والفلسطينيين والمتعلقة بتعريب الكنيسة وتسريب أملاكها للاحتلال يمكن أن تحل بجرة قلم من السيسي أو الملك عبد الله أو حتى أبو مازن؟

عرب 48: بصراحة أنا لا ألوم الحكام العرب، ولا أنتظر منهم شيئا، ولكن لا أفهم سلطة مستعدة لمحاكمة رجل من الناصرة بتهمة السمسرة على بضع دونمات من الأرض، وغير مستعدة لمحاكمة رجل من اليونان متورط بالسمسرة وببيع آلاف الدونمات للاحتلال.

لا أفهم كل هذه الضجة على القدس،، بينما تقف السلطة متفرجة على بيع مئات الدونمات في قلب القدس، ونحن لا نتحدث عن الأراضي التي بيعت أو أجّرت في غربي القدس، والتي بدونها ما كانت لتقوم قدس غربية أصلا بل عن أراض في قلب شرقي القدس وداخل الأسوار، بينها فندق إمبريال وساحة عمر وهي تباع لجمعيات استيطانية.

عرب 48: عودة إلى السيطرة اليونانية على الكنيسة، كيف جرى تأمينها كل تلك الفترة ولماذا؟

بجالي: البطريرك جرمانيوس أنشأ ما يسمى بـ”أخوية القبر المقدس” لتي تقتصر عضويتها على العنصر اليوناني، وهي تعتبر الكنيسة بكل ما تعنيه وتملكه ملكا خالصا للأمة اليونانية، و تم تمكينها بمساعدة كهنة الفنار من السيطرة على الكنيسة الأرثوذكسية، كذلك جرى إصدار قانون صادق عليه السلطان العثماني بانتقال منصب البطريرك بشكل وراثي وهو امر بقي حتى عهد البطريرك كيرالس.

ومن الأمور الطريفة أن يتم الاشتراط على العربي أن يكون متزوجا ليصبح خوري، في حين أنه يشترط بذوي المناصب الرفيعة مثل البطريرك أن لا يكون متزوجا، وهكذا يتم إغلاق هذه المناصب في وجه العرب.

عرب 48: أين دور روسيا في كل هذا الصراع وهي الدولة العظمى التي تنتمي للكنيسة الأرثوذكسية؟

عرب 48: تاريخيا روسيا صارعت على النفوذ الديني والسياسي في هذه المنطقة، وحققت نجاحات نسبية. وفي عهد الاتحاد السوفييتي انكفأ هذا الدور بسبب الموقف من الدين، بينما عاد في عهد بوتين، ومؤخرا سمعنا عن مركز بوتين في بيت لحم، وعن استعادة أملاك روسية في القدس، منها مبنى المسكوبية.

أما بالنسبة لقضية بطريركية القدس فلم يطلب أحد تدخلها، وباعتقادي فإنها كدولة عظمى تمتلك من النفوذ والتأثير ما يؤهلها للعب هذا الدور، خاصة وأن الخلفية التاريخية قائمة.


*د. نقولا بجالي: محاضر في الجامعة المفتوحة حاصل على شهادة الدكتوراة في التاريخ من جامعة “بار إيلان” في موضوع العلاقات الروسية مع العرب المسيحيين الارثوذكس في بلاد الشام من 1914- 1847 .

تعليقات الفيس بوك